فصل: تفسير الآيات (29- 40):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (8- 15):

{فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)}.
التفسير:
قوله تعالى: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ}.
وإذ تقرّر أن يوم الفصل آت لا ريب فيه، وأن ما يوعد الناس به في هذا اليوم واقع لا محالة- إذ تقرر هذا جاءت الآيات لتعرض صورا من مشاهد هذا اليوم، وما يقوم بين يديه من إرهاصات.
فمن إرهاصات هذا اليوم التي تتقدم وقوعه، أن تطمس النجوم، أو يذهب ضوءها، فلا تراها العيون على ما عهدتها عليه من قبل في هذه الدنيا.
وأن تنشق السماء، فلا ترى سقفا مصمتا مغلقا كما تبدو للناظرين اليوم:
{وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً}.
وأن تضيع معالم الجبال، فلا يرى لها على وجه الأرض ظل: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً} (105- 107: طه) وقد أشرنا في غير موضع من تفسيرنا: التفسير القرآنى للقرآن- إلى أن تغير هذه المعالم الكونية يوم القيامة- إنما هو نتيجة لتغير موقف الإنسان منها، وما يطرأ على حواسه المتلقية لها من تغير.. أما هذه المعالم في ذاتها فهى باقية على ماهى عليه.. ومن إرهاصات يوم القيامة أن تؤقت الرسل، أي يؤجل بعثها إلى الناس، فلا يبعث فيهم رسول.. وهذا يعنى أننا منذ بعثة الرسول محمد- صلوات اللّه وسلامه عليه- ونحن على مشارف هذا اليوم الموعود، إذ كان الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه- خاتم رسل اللّه، وأن لا نبى بعده.. وهذا ما يشير إليه الرسول الكريم بقوله «بعثت أنا والساعة كهاتين» وأشار- صلوات اللّه وسلامه عليه- بأصبعيه: السبابة والوسطى.
ويجوز أن يكون المراد بالرسل هنا- واللّه أعلم- العقول الرشيدة، والفطر السليمة في الناس، حيث أن مع كل إنسان رسولا إلى نفسه، هو عقله، وفطرته.
فإذا انتهى الأمر بالناس إلى أن تضل عقولهم جميعا عن الحق، وأن تزيغ قلوبهم جميعا عن الهدى، فلم يبق فيهم مؤمن باللّه، قائم على شريعته- كان ذلك إيذانا بقرب يوم القيامة، وإرهاصا من إرهاصات وقوعه، ويكون معنى توقيت الرسل هنا، تعطل العقول عن عملها، ووقوع الخلل والفساد في الطبيعة البشرية وتنكيسها في الخلق.
ومما يشهد لهذا المعنى الذي ذهبنا إليه، ماورد في الآثار من تبدل أحوال الناس بين يدى نفخة الصور الأولى، وانتكاس طبيعتهم، كما يشير إلى ذلك قوله صلى اللّه عليه وسلم: «بدأ الدين غريبا، وسيعود كما بدأ.. فطوبى للغرباء» وقوله تعالى: {لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ} هو سؤال وارد على الخبر في قوله تعالى: {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} أي إلى أىّ يوم هذا التوقيت، أو التأجيل للرسل؟ فكان الجواب:
{لِيَوْمِ الْفَصْلِ} أي ليوم القيامة.. فهو غاية لتأجيل الرسل، وتعطيل عملهم.
والسؤال هنا هو: وهل إذا كان تأجيل الرسل أو تعطيل عملهم غايته هو يوم القيامة، فهل إذا جاء يوم القيامة ينتهى هذا التوقيت، ويعود الرسل إلى مكانهم في الناس؟
والجواب: أن نعم وعلى كلا الرأيين الذين ذهبنا إليهما.
فإن رسل اللّه- صلوات اللّه وسلامه عليهم- سيظهرون مرة أخرى مع أقوامهم في مشهد الحساب والجزاء، يشهدون على أقوامهم، وما كان منهم من استجابة لهم، أو خلاف عليهم، وتكذيب بهم، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً} [41: النساء] وقوله سبحانه: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ} [109: المائدة].
أما العقول التي ضاع رشادها، والقلوب التي عميت بصيرتها- فإنها تجيء يوم القيامة وقد انكشف الغطاء عنها، فترى الأمور رؤية كاشفة، وتعرف الحقّ واضحا مشرقا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [22: ق] قوله تعالى: {وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ} يوم الفصل، هو يوم القيامة، الذي يفصل فيه سبحانه وتعالى بين الناس.
والاستفهام يراد به تهويل هذا اليوم، وما يقع فيه من أحداث، لا يمكن أن تتصورها الأوهام، ولا أن تحيط بها العقول.
وقوله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}.
هو جواب الشرط إذا في قوله تعالى: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} وما عطف عليه.
والويل: هو الهلاك والبلاء المبين.. وهو وعيد للمكذبين بهذا اليوم، حيث لم يعدّوا أنفسهم له، ولم يعملوا حسابا للقائه.. {إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً} [27: النبأ].

.تفسير الآيات (16- 28):

{أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)}.
التفسير:
قوله تعالى: {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}.
هو مواجهة للمشركين للمكذبين بيوم الفصل، وتهديد لهم بالهلاك الدنيوي، وأخذهم بما أخذ اللّه به المكذبين من قبلهم في الأمم السابقة، بعيدها وقريبها.
والأولون الذين أهلكهم اللّه، هم قوم نوح، وعاد، وثمود.. والآخرون هم من جاءوا بعدهم، كقوم فرعون، وقوم لوط.
والمراد بالاستفهام هنا، التقرير، واستنطاق الواقع الذي شهدته الحياة، وسجله التاريخ.
وقوله تعالى: {كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} هو تعقيب على هذا التقرير.
أي كما فعلنا بالأولين، وألحقنا بهم الآخرين، كذلك نفعل بالمجرمين، في كل أمة، وفى كل جيل.. فهذا هو حكم اللّه في أهل الضلال، لا استثناء فيه.. وفى هذا إشارة إلى المشركين الذين يواجهون النبي بعنادهم وضلالهم، ويركبون نفس الطريق الذي ركبه الضالون من الأولين والآخرين قبلهم.. فالويل لهم يومئذ من عذاب اللّه المرصود لكل مكذّب بهذا الحديث.
قوله تعالى: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ} هو دعوة إلى هؤلاء الضالين المكذبين من المشركين، أن يعيدوا النظر في موقفهم من إنكار البعث، وتكذيبهم به، واستبعادهم له، حتى يخلصوا بأنفسهم من هذا الويل المطلّ عليهم، فتلك هي فرصتهم الأخيرة، فإن لم يبادروها ويصححوا موقفهم فيها، أقلعت سفينة النجاة، وتركتهم يغرقون في هذا الطوفان المقبل عليهم!! فهؤلاء الذين يستبعدون البعث، ويستعجزون قدرة اللّه عن إعادتهم إلى الحياة بعد الموت- ألم يخلقهم اللّه من ماء مهين؟ فما الفرق بين خلقهم من هذا الماء المهين، وبين بعثهم من التراب؟
والماء المهين، هو ماء الرجل، وهو المنىّ الذي يتخلق منه الجنين في رحم الأمّ.
ووصف الماء الذي خلق منه الإنسان بأنه مهين- إشارة إلى أنه في ظاهره شيء لا وزن له في مرأى العين، بل هو شيء مستقذر، لا يحرص عليه الإنسان.
قوله تعالى: {فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ}.
أي أن هذا الماء المستقذر المهين، قد جعله اللّه سبحانه وتعالى، ماء مصونا محفوظا {فِي قَرارٍ مَكِينٍ} هو رحم الأم.
إن هذا الماء المهين إذن، ليس كما يبدو في ظاهر الأمر شيئا محقرا، أشبه بفضلات الإنسان، وإنما هو في حقيقته حياة، تضم في كيانها هذه المخلوقات البشرية.. إنه الناس، في صورهم وأشكالهم.. إنه صورهم المضمرة، ووجودهم المستور.. ولهذا صانه اللّه سبحانه وتعالى، وأودعه هذا القرار المكين الذي أعده له.
وقوله تعالى: {إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ}.
متعلق بقوله تعالى: {فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ} أي أن هذا المستودع الذي أودع فيه هذا الماء، لا يمسك هذا الماء إلا إلى زمن محدود، وغاية ينتهى إليها، وهى مدة حمل الجنين في رحم الأم، من استقرار النطفة فيه إلى خروجها منه بشرا سويّا.
وقوله تعالى: {فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}.
أي فقدرنا بقدرتنا وحكمتنا مسيرة هذه النطفة في الرحم، وتنقلها فيه من طور إلى طور، وذلك بقدر معلوم، وتقدير موزون، وحساب محكم دقيق.
وقوله تعالى: {فَنِعْمَ الْقادِرُونَ} هو ثناء من اللّه سبحانه وتعالى على ذاته الكريمة، التي لا يحسن الثناء عليها، ولا يوفيها حقّها، إلا هو سبحانه وتعالى، وفى هذا يقول الرسول الكريم، في تمجيد ربه والثناء عليه: «سبحانك لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك».
وفى هذا الثناء من اللّه سبحانه وتعالى على ذاته الكريمة- إشارة إلى أن هذا الإبداع في الخلق، والإحكام في التصوير، مشهد يقف الوجود كله مبهورا أمام جلاله وروعته، ثم لا يجد من صيغ الثناء ما ينطق به في هذا المقام، فكان صمته أبلغ من كل كلام، وكانت حجته على الصمت، أن نطق أحكم الحاكمين رب العالمين.. فليس بعد قول اللّه قول، ولا بعد ثنائه ثناء! فالويل يومئذ لمن كان لا يرجو للّه وقارا، ولا يعرف لجلاله قدرا! قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً}.
هذا مشهد آخر من مشاهد قدرة الخالق جلّ وعلا.
فإذا عميت بعض البصائر عن أن ترى مسيرة هذه النطفة الصغيرة، وأن تشهد ما انطوت عليه من حياة، وما تفجر منها من مخلوقات- فإنها تستطيع أن تنظر إلى كائن آخر، أكبر حجما من هذه النطفة.. إنه الأرض!! الأرض كلها بما على ظهرها، وما في بطنها.
فماذا يرى من هذه الأرض، ظاهرا أو باطنا؟
إنها النطفة.. مكبرّة!! إنها حياة وموت.. في وقت معا.
إنها حياة منطلقة من موات، وموات يتخلف من حياة.
إنها رحم كبير، يتفتح لنطف الماء الذي يتحلب عليه من السحاب!- {وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [5: الحج].
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ} [27: السجدة].
{أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا وَحَدائِقَ غُلْباً وَفاكِهَةً وَأَبًّا} [25- 31: عبس].
ومعنى {كفاتا} أي مستودعا.. يقال: كفت الشيء، أي ضمه إلى نفسه، مثل كفله.
وقوله تعالى: {أَحْياءً وَأَمْواتاً} عامل النصب في أولهما فعل محذوف، مفهوم من قوله تعالى: {كفاتا} أي مستودعا يضمّ أحياء وأمواتا.. ويجوز أن يكون عامل النصب هو {كفاتا} بمعنى ضامّة أحياء وأمواتا.
قوله تعالى: {وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}.
هو إشارة إلى الجبال التي تبرز على وجه الأرض عالية شامخة، تهول، وتروع، وتحدّث عن عظمة الصانع العظيم الذي أقامها.
وقوله تعالى: {وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً} أي ماء عذبا، زلالا، هو بعض هذا الماء الملح، الذي على كثرته لا تقوم عليه حياة الإنسان.. أفبعد هذا تكذبون بالبعث، وتنكرون يوم الجزاء؟ فالويل لكم من هذا الضلال الذي أنتم غارقون فيه.. أيها المكذبون!

.تفسير الآيات (29- 40):

{انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40)}.
التفسير:
قوله تعالى: {انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ}.
هو إشارة إلى المكذبين بيوم الفصل، بعد أن أصروا على موقفهم من التكذيب به، وبعد أن ضربوا صفحا عن كل ماقام بين أيديهم من شواهد، وما انتصب لهم من أدلة على قدرة اللّه التي لا يعجزها شيء، فمضوا في طريق الكفر والضلال، حتى ضمتهم القبور.. ثم هاهم أولاء يبعثون من قبورهم، ويتلفتون إلى أي مساق هم مسوقون إليه، وإذا صوت مزلزل يخترق أصماخ آذانهم، ويلقى فيها بهذا الأمر الصادع: {انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}.
أي انطلقوا إلى موقف الحساب والجزاء، إلى ساحة الفصل، فهذا يومه الذي كنتم به تكذبون.. ثم يتبع هذا الأمر بأمر آخر يكشف لهم عن وجه المنطلق الذي ينطلقون إليه: {انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ}.
وأين ذلك الظل ذو الثلاث شعب؟ إنه على غير ما يعرف الناس من ظل في الحياة الدنيا.. فليبحثوا عنه هنا في المحشر.. إنه بلا جدال ليس من ظلال الجنة، فظلال الجنة ممتدة دائمة، كما وصفها اللّه سبحانه وتعالى في قوله:
{أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها} [35: الرعد] وفى قوله تبارك اسمه: {وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [27- 30 الواقعة].
وإذن فهذا الظل لا مكان له إلا في جهنم، إذ ليس في هذا اليوم إلا الجنة والنار.. وإنه لهناك فعلا.
وقد جاء في القرآن الكريم وصف لهذا الظل الجهنمى في قوله تعالى: {وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} [41- 44: الواقعة] واليحموم الدخان الأسود الكثيف، الذي ينعقد في الجو.
والدخان الكثيف، إذا خرج من موقده، كان في أول أمره كتلة واحدة، فإذا ارتفع قليلا في الجو تخلله الهواء، ورق قليلا، وكان طبقة أرق من الطبقة التي تحته، ثم إذا علا في الجو، رقّ، فكان أرق مما تحته.. ثم إذا ارتفع أكثر من هذا المدى ذاب في الهواء وتبدد، ولم يعد له ظل!! فهذا هو الظل، وتلك هي شعبه الثلاث التي تشعب إليها، وكأن كل شعبة من الشعب الثلاث كيان قائم بذاته، وإنما سميت شعبة لأن أصلها من مصدر واحد، هو النار.
وقوله تعالى: {لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} هو وصف لهذا الظل الجهنمى.. إنه لا ظليل، أي لا يستظل به من حر، ولا يأوى إلى ظله محرور، من الكائنات الحية، وإنه لا يغنى من اللهب، أي لا يدفع عنهم لهب جهنم الذي ينوشهم من كل جانب.
وفى دعوتهم إلى الانطلاق إلى ظلّ هو من دخان جهنم، لا إلى جهنم ذاتها، مع أنهم مدعوون إليها أصلا- في هذا استهزاء بهم، وسخرية منهم، ومبالغة في إيلامهم، حيث يلوّح لهم بالظل، الذي يفتح لهم بابا من الأمل، فإذا هذا الظل لا يتمتع به إلا من أخذ مقعده من النار!! قوله تعالى: {إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} الضمير في إنها يعود إلى جهنم، التي يقوم على سمائها هذا الظل ذو الثلاث شعب.
وفى وصف الشرر الذي ترمى به بأنه كالقصر، أي البيت العظيم- إشارة إلى ضخامة حريقها، الذي لا تبلغ جبال الدنيا مجتمعة بعضا من ضخامته.
وقوله تعالى: {كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} الجمالات: جمع جمّل، وهو الحيوان المعروف.
وفى جمع الجمل، على جمالات، إشارة إلى أنها من الجمال المتخيرة من بين الجمال، ضخامة، وامتلاء.. مثل رجالات، التي هي جمع لرجال ذوى صفات متميزة.
وفى وصف الجمال بأنها صفر، إشارة إلى وصف لون الشرر، بعد أن وصف بالضخامة بأنه كالقصر.
وفى وصف لون الشرر بالجمالات الصفر، دون غيرها من كل ذى لون أصفر- إشارة إلى الحركة، واللون، والضخامة، جميعا.. فهذا الشرر ينطلق بعضه إثر بعض في تتابع كأنه قطعان من الجمال الصفراء، ينطلق بعضها إثر بعض! فالويل للمكذبين، من هذا البلاء المحيط بهم، ومن هذه النار التي ترمى بهذا الشرر العظيم.
قوله تعالى: {هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}.
أي هذا اليوم الذي تقع فيه هذه الأهوال بالمكذبين الضالين، هو يوم لا ينطقون فيه، ولا تتحرك ألسنتهم بمثل هذا الزور الذي كانت تتشدق به في الدنيا.. {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ} [65: يس] وهذا لا ينفى أنهم يتكلمون يوم القيامة، ولكن ليس الكلام الذي كان يجرى على ألسنتهم في الدنيا، من زور وبهتان، ومن تفاخر وتطاول على العباد.. إن كل شيء فيهم يومئذ ينطق بالحق! وقوله تعالى: {وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} أي لا يؤذن لهم بكلام يلقون فيه بأعذار يعتذرون بها عن جناياتهم في الحياة الدنيا: {فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [57: الروم] فالويل لهؤلاء المكذبين، ولكل مكذب بيوم الدين.
قوله تعالى: {هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ} أي هذا هو يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون، لقد وقع، فلا مناص لكم منه، ولا مخرج لكم من البلاء الذي أنتم ملاقوه فيه، وقد التقيتم فيه بمن سبقكم من المكذبين قبلكم، الذين ضربت لكم الأمثال بهم في الدنيا، فلم تنتفعوا بها، ولم يكن لكم فيمن سبقكم عبرة.
قوله تعالى: {فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}.
أي فإن كان لكم أيها المكذبون الضالون حيلة تحتالون بها، أو كيد تكيدون به، لتخرجوا من هذا البلاء- فهاتوه!! فالأمر هنا، أمر تعجيز، حيث يواجه المأمور بما هو محال.
فادفع بكفك إن أردت فخازنا ثهلان ذو الهضبات هل يتحلحل؟
إنه لا كيدلهم، ولا حيلة بين أيديهم لدفع هذا البلاء، فالويل لهم من عذاب اللّه.